لحياة الاامام
كان القاسم (عليه السلام) بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وأخوه الإمام الثامن (الضامن) علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وأخته السيدة الجليلة الفاضلة فاطمة المعروفة بـ (معصومة قم المقدسة)، وأمه السيدة الجليلة تكتم الملقبة بأم البنين، وهي من أهل المغرب، وتدعى أم ولد كانت مملوكة لحميدة أم الإمام الكاظم (عليه السلام)، كما جاء في رواية الحاكم البيهقي، وذكرت لها أسماء كثيرة (نجمة وسمانة وخيزران...) وابن أخيه الإمام التاسع من أئمة الهدى، التقي محمد بن علي الجواد (عليه السلام). قال فيه أبوه الإمام الكاظم (عليه السلام) لأبي عُمارة : (أُخبرك يا أبا عُمارة أنّي خرجتُ من منزلي فأوصيتُ إلى ابني علي ـ أي الإمام الرضا ـ وأشركتُ معه بَنِيَّ في الظاهر وأوصَيته في الباطن، وافرَدته وحدَه، ولو كان الأمر إليّ جعلتُه ـ أي أمر الإمامة ـ في القاسم ابني ، لحبّي إيّاه ورأفتي عليه، ولكنّ ذلك إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء) ( إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي)، وهذا الخبر يدل على أن القاسم والإمام الرضا(عليهما السلام ) كانا متقاربين بالسن، وحتى يلبس على العباسيين أمر الإمام أدرجه مع أخيه الإمام الرضا (عليه السلام)، دلالة على عظم منزلته وأنه يأتي بعد أخيه الإمام في الفضل والعلم، وروى الشيخ الكليني أيضاّ عن سليمان الجعفري أنه قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام)، عندما احتضر أحد أولاده، قال لابنه القاسم: قم يا بني فاقرأ عند رأس أخيك (والصافات صفا) حتى تستتمها، فقرأ فلما بلغ: (أهم أشد خلقاّ أم من خلقنا) قضى الفتى، ويظهر من هذين الخبرين كثرة عناية وتوجه الإمام (عليه السلام) إلى ولده الإمام القاسم (عليه السلام). ولد القاسم (عليه السلام) عام (150 هـ)، في المدينة المنورة على رواية يزيد بن السليط عن أبي الحكم الأرمني، كما جاء في (عيون أخبار الرضا)، وجاء في (تثقيف الأمة بسيرة أبناء الأئمة) في المدينة المنورة في أول شهر محرم، وعاصر خلال حياته الشريفة أربعة من خلفاء بني العباس وهم المنصور، المهدي، الهادي، والرشيد. كان القاسم (عليه السلام)، عالماً جليل القدر رفيع المنزلة وكان أبوه الإمام الكاظم (عليه السلام)، يحبه حباً شديداً، وادخله في وصاياه وأطلعه على صدقاته، وفي هذا دلالة واضحة على فقه القاسم (عليه السلام) وعلميته. جاء في كتاب (شجرة طوبى) للشيخ محمد مهدي الحائري أنه لمّا استُشهد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في سجن هارون الرشيد توارى القاسم (عليه السلام) عن الأعداء، وهاجر من مدينة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) صوب العراق مع القوافل التجارية التي فارقها عند مشارف الكوفة، ليسير بمحاذاة نهر الفرات قاطعاً المسافات الطوال تاركاً كل قرية أو مدينة يمر بها حتى وصل إلى منطقة سورى، إذ وجد بنتين تستقيان الماء فقالت إحداهن للأخرى ( لا وحق صاحب بيعة الغدير ما كان الأمر كذا وكذا)، فسر لسماع هذا القسم وتقدم باستحياء ليسأل التي أقسمت (من تعنين بصاحب بيعة الغدير ؟) قالت: أعني الضارب بالسيفين والطاعن بالرمحين أبا الحسن والحسين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عندها اطمأن قلبه وهفت نفسه لأهل هذا الحي الذي يسمى (حي باخمرا)، نسبة إلى كثرة خمار الطين (وهو التراب المخلوط بالماء والتبن المستخدم في البناء)، طلب القاسم (عليه السلام) من البنت صاحبة القسم أن تدله على مضيف رئيس الحي واستجابت لطلبه قائلة (إن رئيس الحي هو أبي)، والذي رحب بالقاسم (عليه السلام) وأحسن ضيافته وانتظر القاسم (عليه السلام) حتى مضت ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع دنا القاسم (عليه السلام) من الشيخ وقال له : يا شيخ أنا سمعت ممن سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الضيف ثلاثة وما زاد على ذلك يأكل صدقة وأني أكره أن آكل الصدقة وأني أريد أن تختار لي عملاً أشتغل فيه لئلا يكون ما آكله صدقة فقال الشيخ : أختر لك عملا فقال له القاسم (عليه السلام) : اجعلني أسقي الماء في مجلسك، فبقي على هذا إلى أن كانت ذات ليلة خرج الشيخ في نصف الليل في قضاء حاجة له فرأى القاسم (عليه السلام) صافاً قدميه قائماً، وقاعداً، وراكعاً، وساجداً، فعظم في نفسه، وجعل الله محبة القاسم (عليه السلام) في قلب الشيخ. وقد ظهرت من القاسم (عليه السلام) كرامات وصفات لم تجتمع في شخص، خلال وجوده في الحي، فقد وفرت مياههم وزادت غلتهم، فضلاً عن ما تمتع به (عليه السلام) من غزارة علم، وطيب معشر، وسمو أخلاق، وحسن شمائل، فاضت على أهل الحي، ناهيك عن شجاعة القاسم (عليه السلام) التي وصلت أن يرد بمفرده ما سلبه الغزاة من الحي بعد أن قاتلهم وشتت جمعهم إذ وقعت الحادثة بغياب رجال الحي واستنجاد النسوة بالقاسم (عليه السلام) الذي تبع الغزاة واسترجع ما بأيديهم، لتقص النساء ما حدث للرجال عند عودتهم وما كان من شجاعته ونخوته، فاكبروا مقامه وأجلّوا شخصه أكثر . استقر في نفس الشيخ أن يزوجه إحدى بناته فعرض الأمر على قومه فأنكروا عليه ذلك، لأنهم لم يعرفوا له حسباً، ونسباً إذ إن القاسم (عليه السلام) لم يعرفهم بنفسه سوى أنه الغريب، ولم يوقفهم على نسبه الشريف مخافة بطش السلطة الغاشمة، ولم يكترث الشيخ لاعتراض قومه فمضى في مشيئته ليعرض أمر الزواج على القاسم (عليه السلام) فاستجاب القاسم (عليه السلام) لعرض الشيخ مفضلاً البنت صاحبة القسم، التي دلته على مضيف أبيها يوم قدومه الحي، وبقي القاسم (عليه السلام) عندهم مدة من الزمان، حتى رزقه الله منها بنتا وصار لها من العمر ثلاث سنين. مرض القاسم مرضا شديدا حتى دنا أجله، وجلس الشيخ عند رأسه يسأله عن نسبه وقال : ولدي لعلك هاشمي قال له : نعم أنا ابن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) فجعل الشيخ يلطم رأسه وهو يقول : واحيائي من أبيك موسى بن جعفر(عليه السلام) قال له : لا بأس عليك يا عم إنك أكرمتني وإنك معنا في الجنة، يا عم فإذا أنا مت فغسلني وحنطني وكفني وأدفنني، وإذا صار وقت الموسم حجّ أنت وابنتك وابنتي هذه، فإذا فرغت من مناسك الحج اجعل طريقك على المدينة، فإذا أتيت المدينة أنزل ابنتي على بابها فستدرج وتمشي فامش أنت وزوجتي خلفها حتى تقف على باب دار عالية فتلك الدار دارنا . توفي سيدنا القاسم (عليه السلام) قبل أخيه الإمام علي الرضا (عليه السلام) في 22جمادى الأولى سنة 192هـ، ويقول الشاعر دعبل الخزاعي من قصيدته الشهيرة بوفاة القاسم (عليه السلام): وقبر بأرض الجوزجان محله وقبر بباخمرا لذي الغربات وذكر السيّد ابن طاووس (قدس سره) في كتابه مصباح الزائرين: استحباب زيارة القاسم بن الإمام الكاظم (عليه السلام)، ثمّ قرن استحباب زيارته بزيارة أبي الفضل العباس بن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا تقل منزلته (عليه السلام) شأناً عن أخيه الإمام الرضا (عليه السلام)، فقد ورد عنه (عليه السلام) من لم يستطع زيارتي لبعد مسافتي فليزر أخي القاسم (عليه السلام)، وفي ذلك يقول الشيخ محمّد عليّ اليعقوبي: القاسم الندب الذي في وجهه سنا النبيّ والوصيّ قد أضا ذاك الذي فيه وفي آبائه جميع حاجات البرايا تُقتضى لم أنسه في كلّ حيّ خائفاً لم ير إلّا شانئاً ومبغضا حتّى قضى ما بين قوم ما دروا أنّه ابن فاطم والمرتضى ويقول السيّد عليّ بن يحيى الحسيني من أعلام القرن الحادي عشر: أيّها السيّد الذي جاء فيه قول صدق ثقاتنا ترويه بصحيح الإسناد قد جاء حقّاً عن أخيه لأُمّه وأبيه إنّني قد ضمنت جنات عدن للذي زارني بلا تمويه وإذا لم يطق زيارة قبري حيث لم يستطع وصولاً إليه فليزر في العراق قبر أخي القاسم وليُحسن الثناء عليه يقع مرقد القاسم (عليه السلام) في ناحية القاسم في مدينة الحلة على ضفاف نهر الفرات وتبعد 35 كيلومترا عن مركز المحافظة، واسمها الآرامي هو سورى أو صورى، ولكنّ بعضهم قد توهم بينه وبين مرقدٍ آخر باسم القاسم، فقال الحموي: (شوشه) قرية بأرض بابل أسفلَ من حلّة بني مَزيد، بها قبر القاسم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، بالقرب منها قبر ذي الكِفْل وهو (حِزْقيل). وقد ردّ عليه حرز الدين قائلاً: هذا خلط منه بل اشتباه؛ لأنّ القبر الذي في شوشة هو قبر القاسم بن العبّاس بن موسى الكاظم (عليه السّلام)، وقد صرّح بذلك (النسّابة) ابن عنبة في كتابه (عمدة الطالب) أيضاً. وكان للقاسم بن الإمام موسى الكاظم (عليهما السّلام) مرقد ومشهد قديم البناء، تَداعى وطرأت عليه عمارات آخِرُها العمارة القائمة اليوم، ويُعهَد تاريخ بنائها إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وفي عام ( 1214هـ) جدّد البناءَ السلطان إسماعيل الأوّل، ووضع فيه صندوقاً خشبياً خاصّاً باسمه، وفي عام ( 1288هـ ) جُدّدت العمارة على نفقة السيّد أغا علي شاه الحسيني، وفي عام (1325هـ) أجرى السيّد محمّد نجل السيّد مهدي القزويني إصلاحات عديدة، ونصب شبّاكاً من الفضّة على نفقة الشيخ خزعل الكعبي وجيه خوزستان، وكتب على الشبّاك في تاريخه: شـاد أبـو المُعـزِّ عَـزِّ قَدْرُهُ خيرَ ضريحٍ لابن موسى الكاظمِ إنْ فاخَرَ الضراحَ في تـاريخِهِ فأرَّخُـوه: فضـريـحُ القـاسمِ وفي عام (1369هـ) كُسِيَت القبّة بـ(القاشاني) بسعي الشيخ قاسم محيي الدين، وفي عام (1371هـ) قامت عشيرة الجُبور ببناء الصحن الشريف، وفي عام( 1380 هـ) أسّس السيّد محسن الحكيم مكتبةً عامّةً في الصحن الشريف، وفي عام (1385 هـ) قام الشهيد السيّد محمد تقي الجلالي بتوسيع الصحن الشريف بما يناسب الزائرين، واهتمّ اهتماماً كبيراً بتجديد الضريح المقدّس، وجمع التبرعات لبناء الشباك، وفي عام (1417 هـ) قام أهالي مدينة القاسم المقدسة بحملة الإعمار الكبيرة، وقد جمعت التبرعات من أهالي المدينة والمدن الأخرى، وبعد سبع سنوات تم البناء بصرح عال يزهو في السماء، تعلوه قبة ذهبية كبيرة، وهي ثالث أكبر قبة في العراق، ومنارتان مذهبتان من الأعلى. وقد أكثر الشعراء من المدح لهذا المرقد المقدس، قال السيّد محمّد جمال الهاشمي (رحمه الله) قصيدة منقوشة بالذهب على ضريح الإمام القاسم (عليه السلام) نذكر بعض أبياتها: إن رمتَ أن تحيا وعيشك ناعمُ فاقصد ضريحاً فيه حلّ القاسمُ تُقضى به الحاجات وهي عويصة ويُردّ عنك السوء وهو مهاجم فيه تُحلّ المشكلات فقبرهُ كالبيت في زوّاره متزاحمُ مَن كابن موسى نال مجداً في الورى كالفجر في أنواره متلاطمُ مَن جدّهُ خيرُ الأنام محمّد مَن أُمّه أُمّ الكواكب فاطمُ .